الكثير من أبناء هذه الامة ينظرون للموسيقى والغناء بأنها حرام وفعل يوسوس به الشيطان ليغوي به الانسان عن العبادة فهل الموسيقى حرام من وجهة النظر الدينية ؟ للإجابة عن هذا السؤال الشائك والذي يشغل بال الكثيرين لا بد من تناول الموضوع من ثلاث زوايا ( فلسفية – إنسانية – دينية ) ولن اذكرهم كتعداد بل سأدمج بينهما كي يتمتع الشرح بالسلاسة اللازمة ليصل بعيد عن التعقيد وفهم العلاقة بين الموسيقى والاسلام.
بقلم المحامي هادي بازغلان
بداية ما هي الموسيقى ؟
بكل تأكيد الموسيقى فن من الفنون الجميلة كالرسم والشعر والنحت وغيرهم وتتشابه معهم بأن مصدرها هو الروح .. قال الاديب الساخر برنارد شو في وصف الرسام المبدع رافائيل ( كان سيبقى اعظم رسام في العالم ولو كان بلا يدين ! ) ثم استرسل قائلا ( بيتهوفن كذلك لحن اعظم سمفونياته عندما أصابه الصمم ! ) ورد الرسام الشهير بيكاسو على سؤال طرح عليه عن نصيحة يقدمها للرسامين المبتدئين ليكونوا عظماء فقال ( عليهم ان يطمسوا اعينهم ! )
إذا الحقيقة الأولى المستنتجة أن الفن هو ما يستشعر بالروح قبل أن تبصره العين والموسيقى كفن من الفنون يصدر من ذات الروح الإنسانية التي كرمها الله فقال ( نفخت فيه من روحي ) فكيف للبعض ان يطمس هذه الروح التي كرم الله بها الانسان ويحرم عليها تذوق الفنون وخاصة الموسيقى !؟ .. قال احد الفلاسفة ان الانسان لم يستطع التفوق على الطبيعة في المرئيات الطبيعية فجمال الطبيعة لا يضاهى لكنه تفوق عليها بالصوت واللحن ! وهذا يتماشى تماما مع جوهر الله عز وجل الذي خلق الأصوات الجميلة لننعم بسماعها فخلق للطيور تغريدها وخلق للطبيعة اصواتها المختلفة الجميلة من هدير الماء لحفيف أوراق الشجر لصوت قطرات المطر وهي تنهمر لتطرق نوافذنا مشكلة اجمل لحن ! لما خلق الله بداخل البعض منا حناجر ذهبية بأصوات عذبة ؟ أليست رسائل واضحة من الله لنا !؟
كان معاوية بن أبي سفيان قد استخدم عمالا من الفرس والروم لبناء دار له في مكة، ثم استخدمهم عبدالله بن الزبير إبان فترة حكمه لترميم جدران الكعبة بعد الحريق الذي شب فيها
والتاريخ يخبرنا ان الموسيقى تتداخل بحياتنا الاجتماعية والفكرية وحتى السياسية والموسيقار الشهير بيتهوفن يضرب لنا أروع الأمثلة في ذلك عندما ناصر الثورة الفرنسية وأشاد بمنقذها نابليون بونابرت وألف سمفونية خاصة بها وكانت الثالثة لبيتهوفن واسماها ( نابليون ) ولكن عندما استبد هذا الأخير بالحكم وتحول لإمبراطور ظالم وبدأ يغزو البلاد ويبطش بالعباد مزق بيتهوفن اسم نابليون وكتب بدل عنه ( البطولة ) ! .. وشاءت الاقدار في احد زيارات بيتهوفن لصديقه الفيلسوف والروائي الشهير غوته ان يسيران معا في منتزه ويدخلان ممرا ضيقا لا يتسع الا لمرور شخص واحد ويفاجئان بنابليون في الطرف الاخر من الممر فلم يأبه بيتهوفن وتابع مسيره مما اضطر نابليون للتوقف لإفساح المجال له للمرور وعندما وصل إليه انحنى وقال ( عمت صباحا سيدي الموسيقار ) والغريب ان بيتهوفن لم يرد التحية وتابع مسيره !
يروى ان الامام الشافعي كان برفقة الامامين المزني وإبراهيم ابن إسماعيل ومروا بدار قوم كانت فيه جارية تغني شعرا فسأل الامام الشافعي إبراهيم ( هل طربت لهذا ؟ ) فقال الامام إبراهيم لا .. فقال الشافعي ( اذا لا حس لك ! )
الأدلة الدينية حول الموسيقى والاسلام
نتوقف مع بعض الأدلة الدينية حول الموسيقى والاسلام ,ومن سير عظام علماء وفقهاء الامة الإسلامية وأقدمها لأصحاب العقول التي حرمت الموسيقى.
الامام يعقوب بن ابي سلمى وكان صديقا للخليفة الورع عمر بن عبد العزيز وكان لديه قيان ( مغنيات ) وابنه يوسف كان عالما وفقيها كبيرا وله في صحيح مسلم وبخاري الكثير من الاحاديث التي خرجت باسمه وكان يرتاده الامام احمد بن حنبل وقال الامام يحيى بن معين ( كنا نأتيه لنتعلم الحديث والفقه وجواري له يضربن بالمعزفة في الغرفة المجاورة ! ) وطبعا المعزفة هي آلة العود .
حول الموسيقى والاسلام ايضا .. الامام الجليل عبد العزيز بن ابي سلمى كان مفتي المدينة المنورة صحبة الامام مالك في وقته وقد رخص الأغاني والعزف بالعود وابنه الامام عبد الملك وكان أيضا مفتي المدينة المنورة من بعده وسار على نهج ابيه وعرف عنه حب الغناء وسماع الموسيقى حتى في سفره وكان شديد العلم واسع الفقه وتتلمذ على يده أئمة كبار وقال الامام احمد بن حنبل انه قدم عليه مرة ومعه مغنيات يغنين معه !
إبراهيم بن سعد وهو حفيد الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف احد العشرة المبشرين بالجنة وكان فقيها كبيرا واحد رواة الحديث وأستاذ الامامين الشافعي واحمد بن حنبل وكان مشهورا بالغناء والصوت والتلحين أيضا وكان في احد الأيام بضيافة الخليفة هارون الرشيد وغنى له على العود ابيات شعرية وسأله الرشيد يا شيخ من كان من فقهائكم يكره السماع ؟ فرد عليه : من ربطه الله ! .. بمعنى السخرية على من يكره الموسيقى .
عبد الله بن الزبير كان لديه عازفات يضربن على العود ودخل عليه عبد الله بن عمر فرأهم ورأى العود فسأله ما هذا يا ابن حواري رسول الله ؟ فقال ميزان يزن العقول !
يروى ان الامام الشافعي كان برفقة الامامين المزني وإبراهيم ابن إسماعيل ومروا بدار قوم كانت فيه جارية تغني شعرا فسأل الامام الشافعي إبراهيم ( هل طربت لهذا ؟ ) فقال الامام إبراهيم لا .. فقال الشافعي ( اذا لا حس لك ! )
الامام عبد الله بن جعفر بن ابي طالب كانت له جواري ويلحن لهن الالحان وكان مشهورا بذلك وكان يعيش في زمان عمه الامام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه .
وايضا حول الموسيقى والاسلام
اشهر من احل السماع والغناء وزيف كل الادعاءات بحرمة الغناء ومعضلة الموسيقى والاسلام .الامام ابن حزم وجاء ببحث كامل في كتابه ( المحلى شرح المجلى ) وقال ان أدوات المعازف يحل بيعها وشرائها ومن كسرها وجب عليه تعويض صاحبها لأنها من الحلال المباح واستشهد بالآية الكريمة ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم ) وقال أنه لم تورد اية واحدة ولا حديث شريف صحيح يحرم الغناء وأورد ابن حزم في كتابه 19 حديثا شريفا حرمت الغناء وجاء على ابطالها كلها وقال انها غير صحيحة واكاذيب لا معنى لها في مفهوم الموسيقى والاسلام!
من الفقهاء المشهود لهم أيضا في حلبة الموسيقى والاسلام, الامام الشوكاني وقد الف كتاب ( ابطال دعوى الاجماع على تحريم مطلق السماع ) وامام الحرمين والامام ابن ابي الدم أبو بكر ابن مجاهد أبو عبد الله الحاكم النيسبوري والامام الشهير ابن قتيبة وكان من كبار علماء اهل الجماعة والسنة وكتب كتاب ( الرخصة في السماع ) والامام تاج الدين الفزاري تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية والامام العز بن عبد السلام وأبو اسحق الشيرازي والامام الماوردي والإمام الجليل أبو فتح ابن دقيق العيد القشيري والف كتاب اسمه اقتناص السوانح شرح به جواز الموسيقى والغناء وقال ( الخذلان ان يقبح المرء ما كان مستحسن ويستحسن ما كان قبيحا ! )
ولعل اشهرهم على الاطلاق حجة الإسلام الامام الكبير أبو حامد الغزالي الذي قال ( من لم يحركه الربيع وازهاره والعود واوتاره فهو فاسد المزاج ما له من علاج ! )
والحقيقة ان هناك الكثير والكثير من الأمثلة حول الموسيقى والاسلام ,ويضيق المقام عن ذكرها فهل من المعقول ان كل هؤلاء العلماء الكبار وفطاحل الفقه والشريعة لم يفطنون الى ان الموسيقى والغناء حرام وفطن لها شيوخ عصرنا الافذاذ !؟ ثم لنترك كل هؤلاء ونسأل ألسنا كمسلمين نتبع دستورا واحدا وهو القرآن الكريم ؟ فأين وردت آية تنص على تحريم الموسيقى !؟ فيا من تحرم علينا نعم الله وتدعي التدين وتنسب لنا الفسق أليس حريا بك ان تذهب وتقرأ وتبحث قبل ان تقف على غصن شجرة كالغراب وتملئ الدنيا نعيقا وتكره الناس في دينهم ودنياهم ليس في موضوع الموسيقى والاسلام بل بشكل عام !
يرجع تاريخ الغناء العربي المتقن إلى منتصف القرن الأول الهجري في مكة والمدينة. وقد نصّب إسحق الموصلي نفسه حارسا على هذا الفن المتقن وكنوزه وتراثه وأصوله التي أقرها
الموسيقى والاسلام في عهد الخلافة
نستعير ما كتبه الكاتب عبد المنعم عبد العظيم في موقع الموسيقى العربية حول الموسيقى والاسلام في عهد الخلافة تحت عنوان :
الغناء في العصر العباسي فن العرب الثاني بعد الشعر
يرجع تاريخ الغناء العربي المتقن إلى منتصف القرن الأول الهجري في مكة والمدينة. وقد نصّب إسحق الموصلي نفسه حارسا على هذا الفن المتقن وكنوزه وتراثه وأصوله التي أقرها، فحوّل فن الغناء في العصر الأموي بإدخال أساليب جديدة نقلت الغناء العربي لآفاق أوسع بعد أن كان محصورا في نواحٍ معيّنة، إلى أن شهد رقيا ونضجا خلال العصر العباسي استمر في التواصل والارتقاء حتى عصرنا الحالي.
استفاد الغناء العربي ممّا عرفه الأسلاف من فنون عند الفرس والروم الذين تعلّموا منهم العزف على الآلات الموسيقية والعزف على العود، واستطاعوا أن يطوروه بما يتناسب مع أذواقهم وأوزان أشعارهم.
وكان معاوية بن أبي سفيان قد استخدم عمالا من الفرس والروم لبناء دار له في مكة، ثم استخدمهم عبدالله بن الزبير إبان فترة حكمه لترميم جدران الكعبة بعد الحريق الذي شب فيها، كما لبث الفرس في المدينة ومكة يعملون في بناء مشروعات عمرانية منذ عهد الخليفة عثمان بن عفان رضى الله عنه ويتغنون ويعزفون، وقد أخذ عنهم العرب فنون الغناء وجاهدوا في صبغها بلغتهم العربية بما يتناسب مع الذوق العربي وطوروا ما ورثوه من هذا الفن وأقاموا له مدرسة مميّزة توارثتها أجيال حتى يوم الناس هذا.
تكوّن هذا الفن في مدة لا تزيد عن أربعين عاما في القرن الأول الهجري، ولما انتقلت ألحان العصر الأموي إلى العصر العباسي تم جمعها في كتب ومدونات ويرجع الفضل في ذلك إلى ريادة إسحق الموصلي الذي وصفه أبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني، بأنه إمام أهل صناعته جميعا ورئيسهم ومعلمهم وهو الذي صحح أجناس الغناء وطرائقه. وكان الموصلي يرى أن من حق صناعته عليه أن يحفظ أصولها التي وضعها رواد الغناء في العصر الأموي بالرواية الأمينة المتقنة.
استفاد الغناء العربي ممّا عرفه الأسلاف من فنون عند الفرس والروم الذين تعلّموا منهم العزف على الآلات الموسيقية والعزف على العود، واستطاعوا أن يطوروه بما يتناسب مع أذواقهم وأوزان أشعارهم.
الفلسفة والموسيقى والاسلام
نعود للعلم والفلسفة .. إن كبار علماء النفس والاقتصاد والسيكولوجيا اثبتوا قدرات الموسيقى العظيمة على ادخال السكينة للنفس والى زيادة الإنتاج بالعمل فجعلوا الموسيقى تلازم حياتهم واعمالهم حتى في تربية الأطفال لوحظ ان للموسيقا دورا كبيرا في تهذيب سلوك الطفل وحتى الحيوان نفسه يركن للموسيقا وكذلك النباتات تنمو بالموسيقا ولولا أني لا اريد الغوص في تلك المفاهيم لفسرتها بشكل واضح لكن لكل مهتم ان يرجع ويبحث بنفسه وسيفاجئ بالنتائج .
لا أريد أن يفهم من كلامي ان الموسيقى والغناء بكل اشكاله حلال ومباح ابدا .. ما قصدته هو فن الموسيقى والغناء وليس الفن المبتذل الهابط وكل مبتذل للروح ومسيء لها قد نهانا عنه الله .. فن الموسيقى المقصود بالحلال هو الذي يتماشى مع الجمال والسمو بالروح البشرية وليس الداعي لانحطاطها والجميل من الرديء ظاهر وبين ولا يحتاج لشرح ونحن الان للأسف في زمن الرديء والمنحط !
وددت لو امتلكت مساحة اكبر لان الموضوع طويل ومتفرع وكل ما سبق ذكره لا يعد كونه عناوين بسيطة للباحث عن الحقيقة كي يرتاح ضميره من لوث الشيوخ والأشخاص النيكروفيليين ( محبي الموت ) مدعي التدين وهم منه براء فلم يتركوا للإنسان شيئا الا واتوا عليه ليحرموه لتسود عقلية الموت والتحريم والجهل ويحولوا جوهر الله المحب للنور والحياة والجمال الى ظلام دامس ابدي طمس القلب والروح !
ختام مع قصة مميزة عن الخلود في الموسيقى
اختم بهذه القصة القصيرة التي تبرز روعة الموسيقى كرسالة خلود انسانية ..
أراد الموسيقار اليوناني الشهير فانجيليس اوديسياس ان يخلد ذكرى مئة مليون انسان بريء قضوا بالحرب العالمية الثانية بسبب أطماع بعض مجانين السلطة فلحن مقطوعة موسيقية هزت العالم بأسره بعام 1981 وكانت أشهر الملاحم وسماها ( Conquest of paradise ) أي ( غزو الجنة ) !
أراد الموسيقار اليوناني الشهير فانجيليس اوديسياس ان يخلد ذكرى مئة مليون انسان بريء قضوا بالحرب العالمية الثانية بسبب أطماع بعض مجانين السلطة فلحن مقطوعة موسيقية هزت العالم بأسره بعام 1981 وكانت أشهر الملاحم وسماها ( Conquest of paradise )
أراد فانجيليس ان يفهم الجميع ان الجنة تعرضت للغزو من قبل أرواح مئة مليون انسان بريء وفي الوقت الذي لم يفلح أي مؤرخ او اديب ان يخلد ذكرى هؤلاء المساكين نجح فانجيليس في تخليد ذكراهم عبر الموسيقى بل انه ابكى العالم ولا يزال يبكيهم كلما سمعوا هذه المقطوعة الخالدة والشعب السوري يعرفها جيدا ويستخدمها عادة في الاعراس عند دخول العرسان ويبكي الجميع ولا يدرون سر هذه المقطوعة الرائعة ولماذا يبكون !؟
هل تأثرا بدخول العرسان فقط أم ان عبقرية فانجيليس جعلتهم يبكون هؤلاء الابرياء ايضا دون ان يشعروا !؟ .. اكاد اجزم انك تبكيهم دون ان تشعر وبذلك يكون فانجيليس والموسيقا قد ادوا رسالتهم الانسانية بالكامل !