الليبرالية الاسلامية ,هل تصلح نظاما للحكم !؟

في عام 1751 ,قال وزير المالية الفرنسي رينيه دي فوير ,في مقابلة مع بمجلة économique الفرنسية, جملة غريبة وغير مألوفة في الشارع الفرنسي السياسي والاقتصادي والصناعي على حد سواء ..

قدر بعد اطلاق هذه العبارة بنحو 38 عاما أن تندلع الثورة الاكثر تأثيرا على مستوى النظم السياسية في العالم وهي الثورة الفرنسية عام 1789 ,والتي طالبت بالاخاء والمساواة والحرية ,والتي أسست لمبدأ المواطنة وتحرير الانسان من الايديولوجيات السياسية والدينية والسطوة الملكة ,واعتبار ان الانسان مواطن له كل الحرية والحقوق التي يكفلها الدستور ,وبالفعل فقد تم كتابة الدستور بعدها بعامين فقط ليكون أول دستور يكتب في ظل .. الليبرالية !

وقبل أن نخوض في تعاريف الليبرالية الكلاسيكية المملة ,يجب أن تدركوا أن الليبرالية هي صنيعة البرجوازية ,وقبل أن تمتعضوا من هذه المعلومة ,يجب أن نقرأ بعض التاريخ البسيط .. !!

في عصور النهضة في اوروبا ,وعندما نقول عصور النهضة فهي تشمل من القرن 16 الى القرن 20 ,( تواليا .. عصر النهضة .. عصر الاصلاح .. عصر التنوير .. عصر الرومانسية ) كي تدركوا هذه التسميات جيدا , في بداية هذه العصور كان الاقطاع هو النظام الحاكم في اوروبا ,وكان الاقطاعي من فئة النبلاء يعين بمباركة الملك والذي بدوره يعين بمباركة الكنيسة الغربية الكاثوليكية في روما ,وبدون هذه المباركة من البابا لا يمكن ان يتولى منصبه الشرعي !

وكان هناك ما يعرف باسم ( طبقة الاكيليروس ) وهي طبقة رجال الدين المسيحي ,وهذه الطبقة كان لها نفوذ واسع جدا تخطى دورها الديني بمراحل ,وكانت تتمثل في البرلمانات ومجالس العموم ,وتتواجد في سهرات الملوك وحفلات النبلاء ,وتشكل مع الاقطاعيين حلف دائم ,اذا هي طبقة تعيش عالة على الشعب وتمص في دماءه وقوته ,وكانت تستخدم الدين لفرض السطوة على الشعب وتحقيق مصالح الملك والنبلاء.

في ذلك الوقت بدأت البرجوازية بالنمو ,والبرجوازية هي طبقة التجار والصناعيين ,والذين اعتبروا انفسهم طبقة مسحوقة لا صوت لها ,وكانت حربهم الغير معلنة ضد نظام الاقطاع ورجال الدين ,فهم يعتبرون ان اقتصاد الدولة مبني على اكتافهم وتجارتهم وصناعتهم ,وانهم يحققون للعامل رفاهية كبيرة مقارنة مع المزارع في الاقطاعية ,وفضلا عن ذلك ,هم ,مع الشعب من يمول خزينة الدولة بالضرائب والاموال ,وعند اشتداد أزمة الفقر والجوع في فرنسا ,وما رافقها من ظلم للإقطاعيين النبلاء رفقة طبقة الاكليروس ,استغل البرجوازيين هذه اللحظة لدعم افكار الادباء والفلاسفة الاصلاحيين والتي تنادي بالمساواة والحرية ,واشهرهم جاك روسو وفولتيير وديدرو ومارات ومونتسيكو وغيرهم ,بل لدرجة ان طبقة البرجوازيين مولت الثورة الفرنسية ودعمتها بالمال والسلاح ايضا !

كل ما سبق من الضروري جدا فهمه لفهم الليبرالية بعيدا عن التعاريف السياسية الجامدة ,وعند سقوط الملكية والاقطاعية في فرنسا ,تصدرت البرجوازية المشهد ,ودفعت ببعض المصطلحات التي تفيدها في الجمهورية الجديدة لتحقيق مصالحها ,وأغلب هذه المصطلحات كانت تدعو لفتح السوق وتخفيف الضرائب والأهم من كل هذا .. اطلاق مبدأ الحرية الاقتصادية عبر فصل الدولة عن الفرد بما يختص بالأعمال والاقتصاد والملكية ,والايمان بأن سعي أفراد المجتمع نحو مصلحتهم الخاصة يحقق تلقائيا المصلحة العامة للمجتمع ,وهو ما شكل لب ما سمي فيما بعد بنظرية .. الليبرالية !

الليبرالية بالأساس نظرية اقتصادية تنادي بفصل الدولة اقتصاديا عن الافراد ؟؟ لكن ماذا يعني ذلك ؟؟

في كتابه العظيم ( ثروة الأمم ) قال شيخ الاقتصاديين السياسيين كما يطلق عليه ( أدم سميث ) ,شرح فكرة الطلاق بين الدولة والافراد اقتصاديا وتأثيرها الايجابي على النظم الاجتماعية والسياسية في الدولة , وحاول سميث من خلال الكتاب أن يوضح أن الفردية الاقتصادية تؤدي الى علاقات اجتماعية افضل ,عندما يتحرر الفرد اقتصاديا من هيمنة قوانين الدولة التي تعيق العمل التجاري ,فإنه يكون خلاقا في حقل المنافسة لان انانيته نحو الوصول للأفضل تدفعه نحو التكامل الاجتماعي !

وأوضح سميث أن التجارة الحرة البعيدة عن القيود والرسوم التى تُفرض على الحرية الفردية فى التجارة سينتج عنها التقدم البشرى والاجتماعي، وطالب برفع يد الحكومة عن التجارة. وبحسب «سميث»، فالاقتصاد يعمل وفقًا لثلاثة قوانين طبيعية ( سنشرحها بمقال منفصل ) وأن دور الحكومة يجب أن يقتصر على أشياء مثل التعليم والحماية وتشييد الطرق وبناء نظام نقدى والإشراف على النظام القانوني العام. أما أى شيء آخر فيمكن الاعتماد فيه على «نظام السوق» وعمل الافراد الحر, بمعنى أخر أن الدولة يتوجب عليها تأسيس المناخ العام للاقتصاد الحر لا أكثر ولا أقل !

ونعود لصديقنا وزير المالية الفرنسي ببداية المقال .. ومقولته .. ( دعه يعمل، دعه يمر، العالم يسير لوحده! )

هذه المقولة شكلت حجر الزاوية لدى أدم سميث في كتابه ,والذي شكل أسس الليبرالية الكلاسيكية ,وقد أنشأ دي فوير نظرية جذابة ( على الاقل بنظر البرجوازيين في ذلك الوقت ) واسماها ( نظرية اليد الخفية ! )

ما هي نظرية اليد الخفية عزيزي القارئ !؟

انتبه جيدا .. يتمركز لب النظرية في إزالة القيود التنظيمية المفروضة على التجارة والصناعة فى فرنسا من قبل الدولة، وقال أن ذلك يشكل مبدأ اقتصادي ينص على أن اقتصاديات السوق تعمل بكفاءة مُثلى فى غياب التنظيم الحكومى و أى شكل للرقابة الحكومية وأى نوع من التشريعات الضريبية، وأن قوى العرض والطلب ستسمح لاقتصاد السوق بتنظيم نفسه، وستُعدل مستويات الأسعار والأجور والعمال نفسها تلقائيًا. وشدد على أنه لا يوجد أى سبب يدفع الحكومات إلى التدخل فى الاقتصاد، عبر فرض تعريفات جمركية أو حد أدنى للأجور، واعتبر أن مثل هذه القيود لن تؤدى إلا إلى عدم الكفاءة وإعاقة الإنتاج دون مبرر !

بالتأكيد عزيزي القارئ أنك اصبحت في حالة إدراك كامل بوجود اصابع البرجوازية في كل مكان بنظرية اليد الخفية او بكتاب ثروة الامم لأدم سميث ,وقد قدر لتلك الطبقة البرجوازية أن تسحق كل من وقف بطريقها ( رغم ان مطالبها لم تحقق بالمطلق ) ,ورغم أفكار الاشتراكية التي نادى بها كارل ماركس ,كل ذلك لم يثني البرجوازية عن المضي قدما ,وخاصة ان الليبرالية الاقتصادية باتت تحمل صبغات جديدة بفعل تطور الحياة والمجتمع والدراسات التي رافقتها من كبار العلماء السياسيين والفلاسفة ,وهذا التطور بات لزاما على البرجوازية أن تواكبه وتخلع جلدها وتستبدله بنظام أكثر تطورا يواكب الليبرالية الاقتصادية والاجتماعية معا ,وهذا ما أسس لنشوء .. الرأسمالية !

حققت الرأسمالية نهضة كبيرة في الغرب وفي الدول التي اتخذتها منهجا اقتصاديا واجتماعيا ,وهنا نقول بتلازم الاقتصاد مع المجتمع لأن الليبرالية التي تؤسس لحرية الفرد الاقتصادية بأفكار الحرية ,هي نفسها التي شكلت الليبرالية الاجتماعية بذات المضمون ,والمفهومان معا شكلا ما يعرف بالليبرالية السياسية ,والتي تعني اطلاق الحريات الفردية كحرية التعبير والصحافة والرأي والعمل والديمقراطية والانتخاب والمساواة وسيادة القانون وفصل السلطات .. الخ !

اذا فهمنا الان مبدأ الليبرالية وارتباطها بالرأسمالية ,وتحولت الليبرالية فيما بعد من نظرية سياسية ,الى مبدأ سياسي واخلاقي في بوتقة أوسع تكفل الحريات الفردية ,لكنها بقيت وفية الى مبدأ أدم سميث الذي يقول في كتابه ثروة الأمم :

إن هذه العبارة الخالدة بنظر مؤيدي الليبرالية ,كانت البوصلة نحو فهم أن السلوك الحر البشري كفيل بإنتاج مجتمع سليم ومعافى اقتصاديا واجتماعيا واخلاقيا ,وقد وضح الفيلسوف الالماني الكبير ماكس فيبر ذلك في كتابه الممتع والذي انصح بقراءته ( الاخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ) ,وفي اشارة الى ان قداسة الفرد نابعة من قداسة المجتمع وهو يقودنا الى نوع من الحركة الهيومانية التي انشترت في القرن الخامس عشر.

مع القرن العشرين ,وجد بعض الليبراليون خلل في نظم حرية الافراد وفصل الدولة عن الفرد ,وبدأوا بحملات اصلاح لليبرالية ,وجاء هنا مصطلح الليبرالية الجديدة ,ومن هؤلاء ليونارد ترَلَوني هوبهاوس و جون هوبسون وتوماس جرين .. وغيرهم

فعلى سبيل المثال ,أحد اشهر مؤسسي الليبرالية الجديدة كان الفيلسوف البريطاني ليونارد هوبهاوس ,والذي قال :

وقال هوبهاوس أن على الليبرالية أن تقيد حرية الفرد بما يخص الدولة والمجتمع بفعل تطور نظم الحياة والحكم والحاجة في كثير من الاحيان لتدخل مباشر من الدولة في الدعم والسيطرة وخلق التوازن والعدالة الاجتماعية ,ولم يرفض هوبهاوس أن تدخل الاشتراكية في الليبرالية ,و وصف نفسه هو شخصيا بأنه .. اشتراكي ليبرالي !

فقط اشير الى نقطة مهمة ,الليبرالية الجديدة السائدة في هذا الوقت منذ بداية القرن العشرين تختلف عن النيوليبرالية Neoliberalism والتي اطلقت منذ سنوات, وسأحاول شرح الفروق في مقال منفصل.

وعلينا فهم أن الليبرالية ليست العلمانية ,ولكن يمكن القول أن العلمانية ولدت من رحم الليبرالية ,ثم سارت بنظريات أكثر تطرفا بما يخص فصل الدين عن الدولة كما أوضحنا بمقال ( العلمانية ) وتجدونه في قسم التنوير في الصفحة ,لكن هناك تشابه بين المفهومين بما يخص امور كثيرة متعلقة بحرية الفرد ضمن المجتمع.

جدل كبير يخلقه مصطلح الليبرالية الاسلامية بحسب الايديولوجية التي تسيطر على عقول قسم كبير من المسلمين ,وبحسب الدول التي يعيشون بها والثقافة التي يتلقونها ,لكن بمجرد ذكر .. علمانية ,, ليبرالية ,, اشتراكية .. الخ ,يتم وصف هذه الحركات بالزندقة والالحاد والكفر ,مع انها مجرد نظم للحكم تتصف بالمرونة والضبط من القوانين الوضعية ,كما رأينا في الليبرالية نفسها والتي تحولت من نظم رأسمالية في شكلها الكلاسيكي الى ادخال افكار اشتراكية تنادي بالعدالة الاجتماعية !

لكن هل هناك وجود الليبرالية الاسلامية !!؟

انطلقت الليبرالية الاسلامية مع مصطلح ( الاسلام التقدمي ) ومع مفكرين وفلاسفة وعلماء دين أيضا كالمفكر جمال الدين الافغاني ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا وآية الله الشيخ إياد الركابي ,ومن بعدهم جاء اخرون مثل محمد العرفج ومضاوي الرشيد ومنصور النقيضان .. وغيرهم الكثير ..

وقد وجدت هذه الفئة أن لا تعارض بين الاسلام والليبرالية في الواقع والفهم العميق للإسلام ,بل أن جمال الدين الافغاني على سبيل المثال ضرب المثال بالإسلام كونه صورة مشرقة لليبرالية لان الله في القرآن منح الحرية المطلقة للأفراد في نواحي الحياة ولم يقيدهم الا بالنواهي والضوابط القرآنية التي تمثل المنظومة الاخلاقية ,وهي اليوم تمثل لب القوانين الوضعية الحاكمة لأغلب السلطات القضائية في الدول ( القتل ,السرقة ,الاحتيال ,اكل الحقوق ,الزنا … الخ ) ,لكن الله منح الحرية للفرد نفسه في الايمان والكفر ,واخبر المؤمن ان ايمانه سيدخله الجنة ,واخبر الكافر أن كفره سيولجه النار ,ولكنه لم يجبر المؤمن على الايمان ولا الكافر على الكفر ,وهي صورة متوافقة مع الليبرالية في الحرية الفردية مما يشكل نواة الليبرالية الاسلامية.

واستغرب الليبراليون الاسلاميون من وصف ( دولة اسلامية ), لأنه و من الناحية المنطقية ,القرآن لم يفرد آيات تفصيلية في الحكم وفي السياسة وبناء الدولة الاسلامية كما أفرد لحياة المرء وزواجه وطلاقه وتعاملاته وعبادته وعقيدته حتى سلوكه مع الضعيف واليتيم ومع والديه أو جيرانه, فكيف يهمل نظام الدولة وهو يمثل الوعاء الاكبر الضابط للمجتمع والعلاقات مع المسلمين وباقي الدول !؟

ويقول الليبراليون الاسلاميون أن الدين الاسلامي دعا للفكر واعمال العقل والبصيرة في آيات القرآن والسنة النبوية الشريفة الصحيحة ,كما أنه حارب الظلم والاستبداد ودعا الى مجتمع منتج معافى ,وضربوا مثلا بأن خليفة المسلمين عمر بن الخطاب اتى بالدواوين وطرق الضرائب والحسابات من حضارات اخرى ,كان الخلفاء المسلمون منفتحون على تجارب الغير ,وعبر تاريخ الحضارة الاسلامية لم يكن هناك اجبار للأخرين لدخول الاسلام او اكراه ,وهو ما يماثل الحرية الفكرية في الليبرالية .. وكلها أوجه للمقارنة فقط والمقاربة لتوضيح الفكرة.

وطالب الليبراليون الاسلاميون بإعادة تفسير القرآن والكتب الفقهية وكتب الصحاح بما يتلاءم مع روح التفسير بالعصر الحديث ,حيث أن من فسر وكتب هذه الكتب ,كانوا أبناء زمانهم .ومع تقدم الحضارة البشرية قد نكون بحاجة تفسير أكثر تقدما واحاطة والاستفادة من العلوم الطبيعية والفكرية في التفسير ,لأنهم وجدوا في ذلك تحقيق لحرية الفرد ضمن ضوابط المجتمع في ظل الليبرالية الاسلامية.

وبالتالي هم استنتجوا أن الاسلام لا يتعارض مع الليبرالية, وممكن خلق نموذج اسلامي ليبرالي ,كما اسس في الغرب نموذج ليبرالي اشتراكي ,اذا كان القصد من الليبرالية بالأساس هي حرية الفرد ونشر الديمقراطية ,فلما لا تكون ضمن المظلة الاسلامية التي منحت الفرد تلك الديمقراطية !؟

واختم ..

كل ما سبق كان شرح لمن اراد فهم الليبرالية وتوضيح لمفهوم الليبرالية الاسلامية, وأقول .. إن سمة العلم دائما هي التطور ,وبالتالي لا يوجد علم يبقى على حاله وإلا فلا يمكن ان نطلق عليه وصف ( علم ) ,وعليه ,ضمن كل تلك الانظمة والنظريات الفكرية السياسية والاقتصادية ,يمكن خلق معادلة نموذجية صالحة بين الدين وباقي الافكار التي لا تتعارض معه لاخراجه من نطاق الايديولوجية الى نطاق أخر أكثر تحررا يساهم في بناء الدولة والفرد ,وربما تكون الليبرالية الاسلامية نموذج سياسي وفكري واجتماعي واقتصادي خاص بنا ,, وربما تحتذي به الأمم .. لما لا !